عرض القرآن الكريم صورة المسيح عليه السلام منذ ولادته وحتى نهاية وجوده على الأرض، موضحا حقيقة هذه الشخصية والهدف من دعوتها وأركان رسالتها وما خصها الله بها من معجزات، وذلك على النحو التالي:
1 – عيسى ابن مريم عليه السلام بشر مخلوق، وعبد للخالق عز وجل، ليس إلها ولا ابن إله، وأمه ليست أم إله، بل هي امرأة طاهرة ظهرت براءتها من الزنا على لسان رضيعها، وكانت هذه هي الحقيقة الأولى التي نطق بها المسيح وهو في المهد، وذلك في قوله تعالى: «فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال: إني عبد الله» (مريم: 30-29).
ومن ثم فالمسيح لا يعدو أن يكون بشرا مخلوقا، ونبيا مُرسَلا من الله عز وجل، كما قال تعالى عنه: «إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مَثَلاً لبني إسرائيل» (الزخرف: 59).
والمسيح عليه السلام لم يستكبر عن الخضوع لخالقه عز وجل والتسبيح بحمده، بل تَشَرَّفَ بكونه من عبيد الله سبحانه، وهذا مصداقا لقوله تعالى: «لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون» (النساء: 172)، ولم تكن ولادته عليه السلام بذلك الشكل المعجز إلا ليكون آية للناس وابتلاء من الله تعالى وامتحانا لهم، وقد سبقه في تلك الطريقة المعجزة التي خُلق بها في تميزها وفرادتها نبي قبله هو آدم عليه السلام، قال تعالى: «إنَّ مَثَل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» (آل عمران: 59).
2 – عيسى ابن مريم عليه السلام نبي ورسول من عند الله عز وجل كغيره من الأنبياء والمرسلين، جاء ليدعو إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبودية، وليصحح انحراف الناس عن دينهم وبُعدهم عن شريعتهم، قال تعالى: «ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يا كلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يوفكون» (المائدة: 75)، وقوله تعالى: «ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون» (الزخرف: 63)، وقوله تعالى: «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس» (البقرة: 253)، وقوله تعالى: «ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل» (الحديد:27).
3 – عيسى ابن مريم عليه السلام إنسان بار بوالدته، ليس بجبار ولا شقي، قال تعالى: «وَبَرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا» (مريم:32).
وهذه الحقيقة القرآنية تنفي بوضوح ما جاء في الإنجيل الحالي (المحرف) من أن المسيح عليه السلام كان إنسانا عاقا، مستهترا بأمه، يكلمها بجفاء ويتعامل معها بدون مبالاة، حيث ورد في الإنجيل قوله: «مالي ولك يا امرأة؟» (العهد الجديد، إنجيل يوحنا، الإصحاح 2، الفقرة4).
4 – عيسى عليه السلام قدوة صالحة وأنموذج رائع للإيمان والعبادة والإخلاص لله تعالى، يقول تعالى على لسان عيسى عليه السلام: «قال إني عبد الله آتانيَ الكتاب وجعلني نبيئا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا». (مريم: 31-32).
5 – رسالة المسيح عليه السلام رسالة خاصة بفئة محدودة من البشر، فهي ليست عالمية كالإسلام، ولم تنزل إلى الناس كافة، بل هي موجهة إلى بني إسرائيل فقط، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: «وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد» (الصف:6)، وقوله تعالى: «ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم» (آل عمران: 48-49).
6- عرض القرآن الكريم حقيقة المسيح عليه السلام والمهمة التي جاء من أجلها، كما بين أن له وقتا محددا سيمضي فيه بدعوته إلى الله تعالى مبلغا رسالة ربه المتمثلة في الإنجيل، ومصدقا للتوراة التي أنزلت قبله، يقول تعالى: «وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين» (المائدة:46).
7-يذكر القرآن الكريم إحدى أهم وظائف المسيح عليه السلام وهي التبشير بمجيء النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله تعالى: «وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد» (الصف: 6).
8- المسيح عليه السلام هو كلمة الله تعالى، يقول عز وجل: «إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم» (النساء: 171). والمقصود بكلمته هنا ذلك الأمر الإلهي الذي صدر عن الله تعالى بلفظ «كن» من غير واسطة أب، ومما تعنيه الكلمة أيضا بشارة الله تعالى وهديته لأمه مريم، وذلك في قوله تعالى: «وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه» (آل عمران: 45).
9- المسيح عليه السلام هو روح من الله تعالى، يقول الله تعالى: «إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه» (النساء: 171)، وإضافة الروح إلى الله هنا تعني التشريف والإجلال والتكريم كما يقال: بيت الله، ورسل الله، ونِعَم الله…
وقد تكون هذه الإضافة هي التي جعلت المسيحيين يبنون عليها قضية التثليث. وإذا تأملنا القرآن الكريم فسنجد بأن كلمة «روح» ليست خاصة بالسيد المسيح عليه السلام فحسب، بل هناك معان أخرى لكلمة روح…
يقول الله تعالى عن آدم عليه السلام: «فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» (الحجر: 29)، والقرآن الكريم نفسه هو روح من أمر الله تعالى، قال سبحانه: «وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا» (الشورى: 52). كما أن وحي الله تعالى لجميع أنبيائه سمي في القرآن الكريم روحا من أمر الله تعالى، يقول عز وجل: «ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون» (النحل: 2).
كما أن جبريل أمين الوحي عليه السلام سمي في القرآن الكريم روحا من الله تعالى، وذلك في قوله سبحانه: «فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا» (مريم: 17)، وقوله تعالى: «وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين» (الشعراء: 194).
10 – معجزات السيد المسيح عليه السلام:
السيد المسيح كسائر الأنبياء عليهم السلام دعا قومه إلى الإيمان بالله تعالى، وبَيَّن لهم الشرائع التي اختلفوا فيها، ومنهج الحياة الطيبة، قال الله تعالى: «ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون» (الزخرف: 63). ومع هذه الدعوة إلى الله تعالى كان لا بد من معجزات تُظهر تأييد الله عز وجل لرسوله، وقد كان لكل رسول معجزات تتناسب مع أحوال قومه، ومن المعجزات المذكورة في القرآن الكريم عن المسيح عليه السلام ما يلي: – إبراء الأكمه –إبراء الأبرص –إحياء الموتى –نزول المائدة من السماء –تصوير الطين والنفخ فيه فيصبح حيا بإذن الله –الإخبار ببعض المغيبات –الكلام في المهد.
وكل هذه المعجزات هي بأمر الله تعالى وإذنه، وليس فيها أية خاصية يختص بها المسيح عليه السلام دون سائر الأنبياء، وقد بينت العديد من الآيات التي ذُكرت فيها هذه المعجزات أنها جاءت لإثبات نبوة المسيح، وكلها تجري بأمر الله تعالى وتأييده. يقول تعالى: «ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم، إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين» (آل عمران: 49). وقوله تعالى: «إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والديك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا، وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فيكون طائرا بإذني، وإذ تبرئ الأكمه والأبرص بإذني، وإذ تخرج الموتى بإذني، وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين» (المائدة: 110). وقوله تعالى: «إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء، قال اتقوا الله إن كنتم مومنين، قالوا نريد أن ناكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلمَ أَنْ قد صَدَقْتَنَا ونكون عليها من الشاهدين، قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك، وارزقنا وأنت خير الرازقين، قال الله إني منزلها عليكم، فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين» (المائدة: -112 115).